السودان- النصر يقترب، تحديات ما بعد الحرب وإعادة البناء

في الأيام الأولى للصراع، بينما كانت قوات الدعم السريع تقتطع أجزاءً واسعة من الأراضي السودانية وتتقدم نحو ولايات الوسط، كان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، يتحدث إلى نخبة من الصحفيين، معربًا عن ثقته المطلقة بالنصر، ومؤكدًا أن "زوبعة الدعم السريع لن تخدعنا، فالنصر بات قريبًا وواضحًا". وبعد انقضاء عدة أشهر، تبدلت موازين القوى على أرض المعركة، وتمكن الجيش السوداني من استعادة الأراضي التي فقدها، وبات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق نصر شامل ومؤزر.
محاصرة البؤر المشتعلة
إلا أن القيادة العسكرية تواجه تحديات جسيمة تتجاوز مجرد القضاء على مليشيا الدعم السريع. فالتحديات الحقيقية تكمن في التعامل مع حالة الترقب والقلق التي تساور الجميع بشأن مستقبل البلاد، بالإضافة إلى كيفية إعادة بناء مؤسسات الدولة، وترسيخ علاقات متينة مع المجتمع الدولي، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة.
مما لا شك فيه أن الحرب تقترب من نهايتها، ليس فقط لأن الجيش السوداني يتمتع بوضع أفضل، وأن قوات الدعم السريع تعاني من الإرهاق والحصار الداخلي والخارجي، ونقص حاد في الموارد البشرية والمعدات العسكرية، وتدهور مصير قادتها، بل أيضًا لأن القوى الدولية المتصارعة على النفوذ والموارد في السودان أدركت أن استمرار دعمها لهذا الصراع قد ألحق ضررًا فادحًا بالجميع، وأن استمرار إشعال نار الفتنة سيؤدي إلى تداعيات خطيرة على المنطقة بأسرها.
وعلاوة على ذلك، فإن السياسة الخارجية التي تتبناها الإدارة الأمريكية، وإن كانت مؤقتة، تركز على احتواء الأزمات المشتعلة ومنح السلام فرصة حقيقية في الشرق الأوسط.
يسود شعور متزايد بين المواطنين السودانيين بأن المعركة قد وصلت إلى نهايتها، وبدأ العديد منهم في الاستعداد للعودة إلى ديارهم، إلا أنهم سيواجهون حقيقة قاسية، وهي أنهم فقدوا كل شيء تقريبًا، وأن البلاد تحتاج إلى معجزة اقتصادية حقيقية للنهوض من كبوتها. وسرعان ما ستتبادر إلى أذهانهم أسئلة ملحة: أين رجال الشرطة؟ وأين المحاكم؟ وأين الجامعات؟ وأين حليب الأطفال؟ وأين الأسواق؟ وكيف السبيل إلى إعادة بناء كل شيء؟ ومن أين نبدأ؟
بعد ذلك، ستطفو على السطح القضايا السياسية الملحة، وستبرز الحاجة الماسة إلى إصلاح شامل للدولة، من خلال التغلب على الاستبداد وسوء الإدارة والفساد المستشري، أو ما أسماه الراحل منصور خالد بـ"الثالوث الثقيل". ويتعين على القوى السياسية أن تستفيد من تجارب الماضي المريرة، وأن تنخرط فورًا في معركة البناء والتنمية، حتى لا تكون كملوك آل بوربون في فرنسا الذين "لم ينسوا شيئًا ولم يتعلموا شيئًا".
مواجهة التدخلات الخارجية
لقد تجلى بوضوح أن قوات الدعم السريع لم تعد قوة يعتد بها على أرض الواقع. فقد انتهى دورها تمامًا عندما حاولت طعن الجيش في ظهره. وحتى حميدتي نفسه لم يعد يمتلك أي قرار، ولا يعبأ بمصير قواته المنهارة. إنه مجرد أداة تحركها قوى خارجية خفية تسعى إلى إبقاء الأزمة مشتعلة؛ بغية فرض تسوية سياسية تضمن مصالحها الذاتية أولًا.
لقد تميزت المبادرة التركية للمصالحة بالواقعية والجدية، وتجاوزت السردية السطحية التي تختزل الحرب في صراع بين جنرالين، وأقرت بوجود أطراف خارجية متورطة في الأزمة وتسعى لتحقيق مكاسب خاصة، مما يستدعي اتخاذ قرارات شجاعة وحاسمة للتعامل مع هذه التدخلات.
الأهم من كل ذلك هو أن هذه المحنة قد أفرزت جيلًا جديدًا من الشباب الواعي والمثقف، الذي يقاتل اليوم ببسالة وشجاعة، ويدرك تمامًا ما يجري حوله من مؤامرات ودسائس. إنه جيل عنيد وصلب الإرادة، يرفض الظلم والمهانة، ومستعد للتضحية بكل ما يملك من أجل الحفاظ على وحدة السودان واستقلاله، ولن يسمح أبدًا لتجار الحروب ووكلاء المنظمات الأجنبية وسماسرة الأسلحة بسرقة أحلامه وطموحاته، أو إبقاء البلاد رهينة لقرارات مجلس الأمن وأوكار التآمر العالمي.
الجيش والسُلطة
إن الظهور الأخير لقائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وهو يتسم بالحزم والعزم، ومشاهد الترحيب الجماهيري به، والصور التي ترفع في الشوارع والتي تصورﻪ كقائد شجاع تصدى لأخطر عدوان في تاريخ البلاد، كلها مؤشرات قوية على أنه سيقود السودان لسنوات قادمة، مدعومًا بالمؤسسة العسكرية.
ومما يعزز هذا الاحتمال هو التعديلات المقترحة على الوثيقة الدستورية التي تمنحه صلاحيات واسعة، بالإضافة إلى التجربة السيئة التي مرت بها قوى الحرية والتغيير في السلطة، وولائها لقوات الدعم السريع، مما جعل الكثير من الناس يشعرون بالحاجة الماسة إلى حاكم قوي ينتمي إليهم، وليس لديهم مانع من التضحية بالحرية مقابل الأمن والاستقرار، على الأقل حتى تتضح معالم المستقبل.
وقد سعى البرهان في آخر تصريحاته إلى تحديد معالم السياسة الخارجية للدولة في المستقبل، مؤكدًا أنها ستقوم على أساس الموقف من هذه الحرب، والسعي إلى بناء وطن خالٍ من المجرمين والمرتزقة والعملاء والخونة.
وهذا يعني أن السلطة الجديدة ستنبثق من رحم هذه التجربة المريرة، مما يؤكد صحة مقولة هيجل الشهيرة بأن "الحروب هي التي تصنع الدول"، فمعظم الدول التي نعرفها اليوم لم تنشأ كأوطان متكاملة، بل نشأت نتيجة للحروب والغزوات.
وعلى نفس المنوال، جاء خطاب نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، الذي شدد على عدم قبول أي مبادرة صلح تمس سيادة البلاد أو تعيد المتمردين إلى المشهد السياسي. وقد اتفق عقار مع حاكم إقليم دارفور، أركو مناوي، في أن السودان لا يعيش حاليًا حالة من المساواة، ودعا إلى بدء حوار شامل يؤسس لسودان جديد.
يتبنى كل من عقار ومناوي خطابًا تأسيسيًا واقعيًا وخاليًا من الشعارات والأيديولوجيات، لا سيما أن البلاد قد انتقلت بصورة مؤلمة من الثورة إلى الحرب، وترسخ في الوعي العام أنه إذا كانت "التعاسة تدفع الناس إلى الثورة، فإن الثورة أيضًا تعيد الناس إلى التعاسة".
وبالقدر نفسه، يحتاج التيار الإسلامي إلى التخلي عن توجهاته الانفرادية السلطوية، وتفعيل "المنظومة الخالفة" التي كتبها الشيخ الراحل حسن الترابي في آخر أيامه، والتي كانت تستهدف بناء تحالف جديد يضم كافة أهل القبلة والقوى الوطنية التي تؤمن بالشورى والحريات.
ترميم صورة البلاد
بكل وضوح، يمكن القول إن هزيمة الميليشيا المتمردة تعني عمليًا فشل مقترح الحكومة الموازية، الذي كان سيهدد بتقسيم البلاد ووضع نهاية للسودان الموحد.
ولذلك، فإن هذه الحرب تمثل فرصة سانحة للتفكير في القواسم المشتركة التي تجمع الناس، وإعادة ترميم صورة البلاد التي "كلما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية"، وذلك فضلًا عن إعادة بناء مؤسسات الدولة والعمل بصورة جماعية لتحقيق المصالحة السياسية والتعافي الاجتماعي، والبحث عن شراكات خارجية من أجل الإعمار تقوم على المعرفة والخبرة، واللحاق بركب الأمم المتحضرة.
كل هذا ضروري لتجنب تكرار عبارة محمد حسنين هيكل القاسية بأن السودان "متطفل على فكرة الدولة، وهو عبارة عن رقعة جغرافية فقط، ليس شعبًا ولا دولة ولا أمّة".
لم يكن هيكل يكن وداً للسودان، ولكنه كان يعتقد أنه أصابته لعنة الحروب، ولكن ما بالنا نحن لا نتعلم من الأخطاء، ونحب بلادنا ونعلي من شأنها، لتنعم بالسلام والازدهار، وتصل إلى الموقع الذي تستحقه تحت الشمس!